"في خيالي" للكاتبة بتول حمادة
في خيالي، خيالي وحدي.. كان هُناك بيتٌ أزرقَ صغير، على أحد جانبَيه أرجوحة كبيرة وطاولة بثلاثة أرجُل. وعلى الآخر حديقة ملأى بأزهارٍ ربيعيّة مِن أقاحٍ وخُزامى وشقائق النُّعمان.. ويحتضنها سورٌ مِن عبّاد الشّمس، بيت بنافذتَين وبابٍ أبيضَ تمهّد الطّريق لخيوط الشّمس كي تستلقي على جبينكَ الواسع.. القابِع على كرسيّه البديع، وجهِك القمحيّ.. ذاكَ الّذي أصنعُ مِن ذرّاته فطورَ الصّباح، ونبيذَ المساء، وأدفّئ به أكتافي الباردة.
في خيالي، تلفازٌ مُطفأ في أعلى الجدار، لم يعمل منذ الأزل. وفونوغراف قديم يغنّي باخ عشرين ساعة في اليوم، كأسٌ زجاجيّ كبير مليء بالتّوليب.. أصفر، أحمر أبيض. وقطٌّ صغير يختبئ تحت كفّك.
في خيالي، أنتَ وأنا هناك.. في بيتٍ أزرقَ صغير، على طاولةِ السّفرة المدوّرة في وسطِ المطبخ، أنت على يساري وأنا على يمينك.. خيوطٌ من الضّوءِ تهربُ من بيتها لتغفو في مسامات وجهك. آه وجهَك!. أحد كفّيكَ في كفّيَ الأيسر والآخر يداعبُ قطًّا أشقر. تخبرني بأنّي أبدو اليومَ أجمل، وأنّ صَوتي سُكّر، وأنّ عِطري ليس مجرّد رائحة.. وبأنّك معي لا تكبُر، بل تصغر، كلّ يومٍ أصغر، أصغر، أصغر.. وأنا لا أنفكّ أحتويكَ أكثر، أكثر، أكثر..
هُناك.. في خيالي -سابقًا-، كنّا معًا. أعيش على وجودِك، لا حاجة لأن أكتبك، ولا لأن أكتبني طالما أنت أمامي هُناك.. كلّ شيء مكتوب.
في خيالي وحدي. وحدي
الآن استحالت حديقتنا إلى أرضٍ مالحة، والبيت صارَ صدفيّ، والقط يرتعدُ خوفًا، وأنا أموتُ جوعًا.. بردًا.. وحدةً.. أكتبُ بحجمِ ما صدحَ باخ في غرفةِ الجلوس.
الآن أنا جالسةٌ على كرسيّك ورائحة ماء الورد والخشب لا تبرح أنفي.
في خيالي، كُنا.
أضف تعليق